صدر لبوبكر المباركي: القدس بين التّوراة والقرآن
صدر هذه الأيام للباحث الجامعي والكاتب الصّحفي بوبكر المباركي كتاب تحت عنوان "صورة القدس بين التّوراة والقرآن: تحت ظلال النّصوص" في 250 صفحة من الحجم المتوسط عن مجمع الأطرش للكتاب المختصّ.
ولئن كان صدور هذا الكتاب متزامنا مع ما تشهده القضيّة الفلسطينية من تحوّلات متصاعدة إلا أن تناول موضوع القدس كان وفق مقاربة علميّة هادئة للمقارنة بين الرّؤتين اليهودية والإسلامية من خلال مقارنة ما تقوله الأسفار الخمس للتّوراة وما يقوله القرآن …
ومما ورد في مقدّمة الكتاب أنّ النصّ القرآني قد ذكّر في أكثر من موضع أن هذا الدّين النّاشئ (الإسلام) ما هو إلاّ امتداد للنّصوص التّوراتيّة رغم الشكّ في نسبة التّوراة إلى النّبي موسى.
وأضاف الدكتور بوبكر المباركي في موضع آخر أن التّوافق الظّاهر بين ورثة الدّعوة الإبراهيميّة ما لبث أن استحال اختلافا حادّا تغيّرت معه الرّؤى والمفاهيم ليفكّ الارتباط رمزيّا بعد ذلك، فلم يكن تغيير القبلة في الصّلاة – مثلا- يستدعي كبير عناء بالنّسبة إلى النّبي محمّد ومن مع من المؤمنين ، رغم اللّغط الذي أثير وقتها حول سبب استبدال قبلة بيت المقدس بالكعبة في مكّة بعد سنتين فقط من الهجرة، ورغم حداثة الإسراء والمعراج للنّبي محمّد الذي استعاد فيه مسار الرّحلة الإبراهيمية الأرضية الأولى غدوّا ورواحا بين البيت الحرام في مكّة والمسجد الأقصى في الأرض المباركة التي تتعدّد فيها الرّموز والمواقع المقدّسة، فقد أحاطها النص المقدّس بكثير من الإجلال والرهبة والرمزيّة العقائديّة المكثّفة…
ولقد حاول الباحث بوبكر المباركي الإجابة في هذا الكتاب على أسئلة مهمّة وهي: كيف يمكن للأديان التي لم تعرف أرضا مقدّسة أو معبدا أن يكون لها خطابٌ يحتفي ويؤسّس للمكان بل ويستدعي الآلهة لإسكانها فيه؟ كيف يكسب النصّ والتمثيل الرّمزي الوجود والمكان دلالته وقداسته؟ وقد سعى الباحث إلى تطبيق منطوق النّصوص الواردة في القرآن الكريم والتّوراة ومقارنتها بالتّجربة الدينية اليهودية والإسلامية بحسب ما تحدّثت عنه المصادر التّاريخية والشّواهد الأثريّة والأدلة الانثروبولوجية.
والواضح من خلال الشّواهد بحسب الباحث أنّ التّجربة الدّينية اليهوديّة لم تكن تتطلب أرضا مقدّسة أو هيكلا، وقد يكون ذلك مفهوما إذا عدنا إلى ما ورد في سفر التّكوين مثلا من كلام إبراهيم مخاطبا لوطا "لا تكن مخاصمة بيني وبينك وبين رعاتي ورعاتك لأنّنا نحن إخوان. أليست كلّ الأرض أمامك؟ اعتزل عني. إن ذهبت شمالا فأنا يمينا وإن يمينا فأنا شمالا"وقد كان الكنعانيون والفرّيسيّون حينئذ ساكنين في الأرض وقد انتهى الأمر بإبراهيم وأبنائه من بعد إلى إقامة معابد وقتيّة حينا ومعابد أخرى منقولة لتصاحب الشّعب في ترحاله وخروجه حينا وسبيه أيضا أحيانا أخرى.
ويظهر أيضا من خلال تجربة الإسلام الأوّل أن الدّين الجديد لم يكن يعنيه كثيرا أمر تحديد قبلة مختلفة عن التّقليد اليهوديّ/المسيحيّ، وقد لا يبعد المنطق القرآني لإسلام النّشأة في مكّة عن مثل ذلك التقليد، فلقد بشّر نبيّه أنّ الأرض كلها" جعلت لي مسجدا وطهورا" باعتبار أنه "أينما تولوا فثم وجه الله" في أداء العبادة تماما مثلما الحنيفية الإبراهيميّة التي يؤكّد الدّين الجديد انتسابه لها.
وعلى الرّغم من الحديث عن تعرض المدينة للغزو والتدمير والحرق والتطهير فإن ذلك لم يضعف من الاعتقاد في قداستها ورمزيتها وإستراتجيتها كفضاء يمثل مركز الكون في الجغرافيا الرّوحية للأديان، فهي القبلة العتيقة وأرض المعراج إلى السّماء حيث فرضت العبادة ومنح الرّسول الخاتم محمّد أفضليّة دينية ما وفق الرّواية الإسلامية.
ولعلّ المكان ذاته كان اكتسب في اليهودية أهمّية قصوى في العصر الحديديّ، فقد أشارت التّوراة في مواضع كثيرة إلى أنّه شهد بناء الهيكل حيث مسكن "ياهو" الإله التّوراتي الشّديد وحيث قدس الأقداس التي يمنع الولوج إليها على كلّ الأغيارأين تتلى لفائف الشّريعة التي تستعيد لحظات الخلق والنبوّة الموسويّة الجامعة للثّالوث: الإله، الأرض والشّعب.
وتكمن أهميّة هذا العمل حول صورة القدس في النّصوص التّوراتيّة والقرآنيّة في كونه محاولة للتعّقل وتفهّم الظّاهرة الدّينية عموما، وفكرة المقدّس والرّمز على وجه التّحديد، ودراستها في مستوى النصّ وفق المدوّنة المشار إليها أي الأسفار الخمسة من العهد القديم -في مقارنتها بالمادّة القرآنية – وما توفر من نتائج البحث حول اختلاق فكرة إسرائيل في النّص وفي التّاريخ.
المنهج والمقاربات :
أولا: المقاربة التّفسيرية الدّينية واللغوية والأنثروبولوجيا التّاريخية من خلال مدخل مفهوميّ لمجمل مكوّنات الجهاز الاصطلاحي للموضوع بهدف ضبط المعاني وتدقيقها .
ثانيا: المقاربة التّاريخية والأركيولوجيّة
ثالثا: المقاربة الأنتروبولوجية واللّغوية، ببحث من خلالها في النّتائج التي توصلت إليها الدّراسات الأنتروبولوجية التي اهتمت بالتّاريخ الثّقافي للشّعوب التي ارتبط اسمها بالقدس والمنطقة، ومن هنا البدء في البحث عن مطابقة تلك النتائج مع الحقائق التي يقدمها النّصّ التوراتيّ والقرآنيّ حول الأرض المقدّسة/المباركة.
ولقد خصّص الباحث الباب الأول لتتبّع دلالات المكان في النصّ التّوراتي بالنّسبة إلى الأنبياء الإسرائيليين وأهميّة الأرض المقدّسة في الهويّة اليهوديّة، وفصلا ثانيا يبحث في معالم القدس اليهودية .
أمّا الباب الثّاني من هذا العمل فيهتمّ بموضوع القدس في النصّ القرآني من خلال التّجربة المحمّدية وما تعلّق بها من قصّة "الإسراء والمعراج" من خلال الرّواية القرآنية وأهمّية بيت المقدس الدّينية .
ويجري الباب الثّالث مقارنة بين التّصوّرين: اليهودي والإسلامي للأرض المقدّسة، وذلك في ضوء مفاهيم ومقولات علم الاجتماع الدّيني والأنثروبولوجيا وعلم الأديان المقارنة.
ولقد حاول الدّكتور بوبكر المباركي في هذا الكتاب إجمالا أن يطرح تساؤلات على العقل الدّيني حول المسافة الفاصلة بين جغرافية الرّوح وجغرافية المكان، وهل المكان المقدّس هو مجال التقاء أم هيمنة واحتواء؟ وهل أن القدس هي مدينة الله أم مدينة الإنسان؟ وهل يمكن أن تكون مدينة كوسموبولوتية جامعة لكل أهل التّوحيد؟
وسعى الباحث في هذا العمل أن يجد طريقه إلى الموضوعية العلميّة وذلك بدءا باستبعاد الكتابات الذّاتية أو التّمجيدية من مراجع الكتاب ، ولعل ذلك يعدّ أولى الخطوات على طريق الموضوعية العلميّة لمن يتصدّى للبحث في مثل هذا المواضيع التي تستدعي تعميق الأسئلة الحارقة أكثر من مجرد تقديم الإجابات الجاهزة .